سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{الر} بتفخيم الراءِ المفتوحةِ وقرئ بالإمالة إجراءً للأصلية مُجرى المنقلبة عن الياء وقرئ بينَ بين وهو إما مسرودٌ على نمط التعديدِ بطريق التحدّي على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محلَّ له من الإعراب وإما اسمٌ للسورة كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ مسماةٌ بألر، وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلمِ بالتسمية بعدُ، فحقُّها الإخبارُ بها لا جعلُها عنوانَ الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر. والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرها لِما أنها باعتبار كونِها على جناح الذكْرِ وبصدده صارت في حكم الحاضِر كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو النصب بتقدير فعل لائقٍ بالمقام نحوُ اذكر أو اقرأ، وكلمةُ {تِلْكَ} إشارةٌ إليها إما على تقدير كونِ الر مسرودةً على نمط التعديدِ فقد نُزّل حضورُ مادتِها التي هي الحروفُ المذكورةُ منزلةَ ذكِرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلماتُ المؤلفةُ من جنس هذه الحروفِ المبسوطةِ الخ، وأما تقدير كونِه اسماً للسورة فقد نوّهتُ بالإشارة إليها بعد تنويهِها بتعيين اسمِها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلِتها في الفخامة ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {آيَات الكتاب} وعلى تقدير كون الر مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسم مستقلٍ والمقصودُ ببيانِ بعضيَّتِها منه وصفُها بما اشتهر اتصافُه به من النعوت الفاضلةِ والصفاتِ الكاملةِ، والمرادُ بالكتاب إما جميعُ القرآنِ العظيم وإن لم ينزل الكلُّ حينئذ إما باعتبار تعيّنِه وتحققِه في علم الله عز وعلا أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جملةً إلى السماء الدنيا كما هو المشهورُ فإن فاتحةَ الكتاب كانت مسماةً بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولمّا يحصُلِ المجموعُ الشخصي إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كلَ من الكتاب القرآن بأحد الاعتباراتِ المذكورةِ وما جميعُ القرآنِ النازلِ وقتئذ المتفاهَمِ بين الناسِ إذ ذاك فإنه كما يُطلق على المجموع الشخصيّ يُطلق على مجموع ما نزل في كل عصرٍ، ألا يُرى إلى ما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول: «أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناسُ من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموعُ النازلُ حينئذ من غير ملاحظةٍ لتحقق المجموعِ الشخصيِّ في علم الله سبحانه أو في اللوح ولا لنزوله جملةً إلى السماء الدنيا.
{الحكيم} ذي الحِكمة وصُف به لاشتماله على فنون الحِكَم الباهرةِ ونُطقِه بها، أو هو من باب وصفِ الكلامِ بصفة صاحبِه أو من باب الاستعارة المكنيةِ المبنيةِ على تشبيه الكتابِ بالحكيم الناطق بالحكمة، هذا وقد جعل الكتابُ عبارةً عن نفس السورةِ، وكلمةُ تلك إشارةٌ إلى ما في ضمنها من الآي فإنها في حكم الحاضرِ لا سيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمِها أو الأمرِ بذكرها أو بقراءتها، وينبغي أن يكون المشارُ إليه حينئذ كلَّ واحدةٍ منها لا جميعَها من حيث هو جميعٌ لأنه عينُ السورةِ فلا يكون للإضافة وجهٌ ولا لتخصيص الوصفِ بالمضاف إليه حكمةٌ فلا يتأتى ما قُصد من مدح المضافِ بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن في بيان اتصافِ كلَ منها بالكمال من المبالغة ما ليس في بيان اتصافِ الكلِّ بذلك، والمتبادرُ من الكتاب عند الإطلاقِ وإن كان كلُّه بأحد الوجهين المذكورين لكنّ صحةَ إطلاقِه على بعضه أيضاً مما لا ريب فيها، والمعهودُ المشهورُ وإن كان اتصافُ الكل بأحد الاعتبارين بما ذُكر من نعوت الكمالِ إلا أن شهرةَ اتصافِ كل سورةٍ منه بما اتصف به الكلُّ مما لا ينكر، وعليه يدور تحققُ مدحِ السورةِ بكونها بعضاً من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضَه منعوتٌ بنعت كلِّه داخلٌ تحت حكمهِ لما تسنى ذلك، وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف.


{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الهمزةُ لإنكار تعجّبِهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محلِّه، والمرادُ بالناس كفارُ مكةَ، وإنما عبِّر عنهم باسم الجِنسِ من غير تعرُّضٍ لكفرهم مع أنه المدارُ لتعجبهم كما تُعُرِّض له في قوله عز وجل: {قَالَ الكافرون} إلخ لتحقيق ما فيه الشركةُ بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعيينِ مدارِ التعجبِ في زعمهم ثم تبيينِ خطئِهم وإظهارِ بطلانِ زعمِهم بإيراد الإنكارِ والتعجيب، واللامُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من عجباً وقيل: بعجباً على التوسع المشهورِ في الظروف، وقيل: المصدرُ إذا كان بمعنى اسم الفاعلِ أو اسمِ المفعول جاز تقديمُ معمولِه عليه، وقيل: متعلقةٌ بكان وهو مبنيٌّ على دلالة كان الناقصةِ على الحدث {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسمُ كان قُدِّم عليه خبرُها اهتماماً بشأنه لكونه مدارَ الإنكارِ والتعجيبِ وتشويقاً إلى المؤخَّر ولأن في الاسم ضربَ تفصيلٍ ففي مراعاة الأصلِ نوعُ إخلالٍ يتجاوب أطرافِ الكلام، وقرئ برفع عجب على أنه الاسمُ وهو نكرةٌ والخبرُ أن أوحينا وهو معرفةٌ لأن أن مع الفعل في تأويل المصدرِ المضافِ إلى المعرفة البتةَ والمختارُ حينئذ أن تجعل كان تامةٌ وأن أوحينا متعلقاً بعجبٌ على حذف حرف التعليل أي أحدث للناس عجبٌ لأن أوحينا أو من أن أوحينا، أو بدلاً من عجبٌ لكن لا على توجيه الإنكارِ والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجباً، فإن كونَ الإبدال في حكم تنحيةِ المبدَلِ منه ليس معناه إهدارَه بالمرة وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدِلالة على أنهم اتخذوه أعجوبةً لهم، وفيه من زيادة تقبيحِ حالِهم ما لا يخفى {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} أي إلى بشر من جنسهم كقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً أو من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} وكلا الوجهين من ظهور البطلانِ بحيث لا مزيد عليه. أما الأولُ فلأن بعثَ الملَكِ إنما يكون عند كون المبعوثِ إليهم ملائكةً كما قال سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية كيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يُبعث الملكُ من بينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسيةِ المتعلّقين بكلا العالَمين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوْا من جانب ويُلْقوا إلى جانب. وأما الثاني فلما أن مناطَ الاصطفاء للنبوة والرسالةِ هو التقدُم في الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلةِ والصفاتِ الجليلة والسبْقِ في إحراز الفضائلِ العلية وحيازةِ الملَكات السنية جِبِلّةً واكتساباً، ولا ريب لأحد منهم في أنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأنِ في غاية الغاياتِ القاصيةِ ونهايةِ النهاياتِ النائيةِ، وأما التقدمُ في الرياسات الدنيويةِ والسبْقِ في نيل الحظوظِ الدنية فلا دخلَ له في ذلك قطعاً بل له إخلالٌ به غالباً قال عليه الصلاة والسلام:
«لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جَناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافرَ منها شربةَ ماء»
{أَنْ أَنذِرِ الناس} أن مصدريةٌ لجواز كونِ صلتِها أمراً كما في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} وذلك لأن الخبرَ والإنشاءَ في الدلالة على المصدر سيانِ فساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبَ وقوعِ الفعل فلا يجرد عند ذلك عن معنى الأمرِ والنهي نحوَ تجرُّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبالِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ في الموصول الاسميِّ خبريةً إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارفِ بالجمل لا لقصور في دلالة الإنشاءِ على المصدر، أو مفسرةٌ إذ الإيحاءُ فيه معنى القولِ وقد جوز كونُها مخفّفة من المثقّلة على حذف ضميرِ الشأنِ والقولِ من الخبر والمعنى أن الشأنَ قولُنا: أنذر الناسَ، والمرادُ به جميعُ الناسِ كافةً لا ما أريد بالأول وهو النكتةُ في إيثار الإظهارِ على الإضمار، وكونُ الثاني عينَ الأولِ عند إعادة المعرفةِ ليس على الإطلاق {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} بما أوحيناه وصدّقوه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقةً ومنزلةً رفيعة {عِندَ رَبّهِمْ} وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصُل السبْقُ والوصولُ إلى المنازل الرفيعةِ كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها، وقيل: مقامَ صدقٍ، والوجهُ أن الوصولَ إلى المقام إنما يحصُل بالقدم وإضافتُها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتِها، وللتنبيه على أن مدارَ نيلِ ما نالوه من المراتب العليةِ هو صدقُهم فإن التصديقَ لا ينفك عن الصدق {قَالَ الكافرون} هم المتعجبون، وإيرادُهم هاهنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببِه، وتركُ العاطفِ لجرَيانه مَجرى البيانِ للجملة التي دخلت عليها همزةُ الإنكار أو لكونه استئنافاً مبنياً على السؤال، كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجبِ هل بقُوا على التردد والاستبعادِ أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيدِ: {إِنَّ هَذَا} يعنون به ما أوحيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم المنطوي على الإنذار والتبشير {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ وقرئ {لساحْر} على أن الإشارةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ {ما هذا إلا سحرٌ مبينٌ}، وهذا اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارجٌ عن طَوْق البشر نازلٌ من جناب خلاق القُوى والقدَر ولكنهم سمَّوه بما قالوا تمادياً في العناد كما هو ديدنُ المكابرِ اللَّجوجِ ودأبُ المُفحَمِ المحجوج.


{إِنَّ رَبَّكُمُ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبيرِ، ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} إلى قوله تعالى: {وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله} أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو {الله الذى خَلَقَ السموات والارض} وما فيهما من أصول الكائنات {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرضَ ولا سماء، وفي خلقها مدرّجاً مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعةً دليلٌ على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار، وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} العرشُ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسامِ سمِّي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابير منه تنزل، وقيل: هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه. وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف. والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانِه بعد زمان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام.
{يُدَبّرُ الامر} التدبيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ هاهنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته، ويهييء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير استوى وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مبنيةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك.
وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدلالة على تجدد التدبيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل: {مَا مِن شَفِيعٍ} بيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} وهذا بعد قوله تعالى: {يُدَبّرُ الامر} جارٍ مجرى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} عقيب قوله تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء} وقوله تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ، وذلك عند كون الشفيع من المصطَفْين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى {ذلكم} إشارةٌ إلى المعلوم بتلك العظمةِ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ المنعوتُ بما ذكر من نعوت الكمالِ التي عليها يدور استحقاقُ الألوحية {الله} وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ} بيانٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ ثانٍ لاسم الإشارةِ، وهذا بعد بيانِ أن ربَّهم الله الذي خلق السمواتِ والأرضَ الخ، لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التذكير ولتفريع الأمرِ بالعبادة عليه بقوله تعالى: {فاعبدوه} أي وحّدوه من غير أن تشركوا به شيئاً من ملَك أو نبيَ فضلاً عن جماد لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضر ولا ينفع وآمِنوا بما أنزله إليكم {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي تعلمون أن الأمرَ كما فُصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقِفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدوا عنه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8